كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: كان آدم عليه السلام مبعوثًا إلى جميع أولاده ونوح عليه السلام لما خرج من السفينة كان مبعوثًا إلى الذين كانوا معه مع أن جميع الناس في ذلك الزمان ما كانوا إلا ذلك القوم؟
أجيب: بأنّ ذلك لم يكن لعموم رسالتهما بل للحصر المذكور فليس ذلك من باب عموم الرسالة، وقوله: {جميعًا} حال من إليكم أي: إن الكل يشترط عليهم الإيمان بي والإتباع لي وقد طار الخبر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل أفق وتغلغل في كل نفق ولم يبق الله أهل مدر ولا وبر ولا سهل ولا جبل ولا بحر ولا بر في مشارق الأرض ومغاربها إلا وقد ألقاه إليهم وملأ به مسامعهم وألزمهم به الحجة وهو سائله عنهم يوم القيامة وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه حين رفع إليه الذراع فنهش منها فقال: «أنا سيد الناس يوم القيامة»، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أوّل الناس خروجًا إذا بعثوا وأنا قائدهم إذا وفدوا وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا مستشفعهم إذا حبسوا وأنا مبشرهم إذا يئسوا لواء الحمد يومئذ بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر»، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر وأنا أوّل شافع وأوّل مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ولا فخر»، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي» والفخر ادعاء العظمة والكبر والشرف أي: لا أقول تبجحًا ولكن شكرًا وتحدّثًا بالنعمة وما اجتمع بهم في مجمع إلا كان إمامهم قبل موته وبعده اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس فصلى بهم إمامًا ثم اجتمع بهم في السماء فصلى بجميع أهل السماء إمامًا وأما يوم الجمع الأكبر والكرب الأعظم فيحيل الكل عليه وما أحال بعض الأكابر على بعض إلا علما منهم بأن الختام يكون به ليكون أظهر للاعتراف بإمامته والانقياد لطاعته لأنّ المحيل على المحيل على الشيء محيل على ذلك والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم تظهر في ذلك الموقف رسالته بالفعل إلى كافة الخلق فيظهر سر هذه الآية: {الذين يتبعون الرسول} قال البقاعيّ: ولما دل بالإضافة إلى اسم الذات ما يدل على جميع الصفات على عموم دعوته وشمول رسالته حتى للجنّ والملائكة أيد ذلك بقوله: {الذي له ملك السموات والأرض} فيكون محله جرًّا على الوصف وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله: {إليكم جميعًا} لأنه متعلق المضاف إليه فهو كالمتقدّم عليه قال الزمخشريّ: والأحسن أن يكون محله نصبًا بإضمار أعني وهذا الذي يسمى النصب على المدح، قال البيضاوي: أو مبتدأ خبره {لا إله إلا هو} أي: فالكل منقادون لأمره خاضعون له ثم علل ذلك بقوله: {يحيي ويميت} أي: له هاتان الصفتان مختصًا بهما ومن كان كذلك كان منفردًا بما ذكر، قال البقاعيّ: وإذا راجعت ما يأتي إن شاء الله تعالى في أوّل الفرقان مع ما مضى في أوائل الأنعام لم يبق عندك شك في دخول الملائكة عليهم السلام في عموم الدعوة. اهـ.
وقال الخطيب الشربيني:
وقد مرّت الإشارة إلى ذلك ولما أمر الله تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس: {إني رسول الله إليكم جميعًا} أمر الله تعالى جميع خلقه بالإيمان به وبرسوله بقوله: {فآمنوا بالله ورسوله} وذلك أن الإيمان بالله هو الأصل والإيمان برسوله فرع عليه فلهذا بدأ بالإيمان بالله ثم ثنى بالإيمان برسوله ثم وصفه تعالى بقوله: {النبيّ الأميّ} وتقدّم معناهما {الذي يؤمن بالله وكلماته} أي: بما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه وقال قتادة: المراد بكلماته القرآن، وقال مجاهد: عيسى ابن مريم لأنه خلق بقوله: كن فكان ولم يكن من نطفة تمنى، ولهذا سمي كلمة الله وقيل: هو الكلمة التي تكون عنها عيسى وجميع خلقه وهي قوله: {كن} {واتبعوه} أي: واقتدوا به أيها الناس فيما يأمركم به وينهاكم عنه {لعلكم تهتدون} أي: لكي تهتدوا وترشدوا جعل تعالى رجاء الاهتداء أثر الإيمان والاتباع تنبيهًا على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شريعته فهو بعد في خطيئة الضلالة.
{ومن قوم موسى} أي: من بني إسرائيل {أمة} أي: جماعة {يهدون بالحق} أي: يهدون الناس محقين أو بكلمة الحق {وبه} أي: بالحق {يعدلون} أي: يحكمون والمراد بتلك الأمّة الثابتون على الإيمان القائلون بالحق من أهل زمان موسى عليه السلام اتبع ذكر المرتابين الكافرين من بني إسرائيل بذكر أضدادهم كما هو عادة القرآن تنبيهًا على أن تعارض الخير والشرّ وتزاحم أهل الحق والباطل مستمر وقيل: هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه {واعترض} بأنهم كانوا قليلين في العدد ولفظ الأمة يقتضي الكثرة، وأجيب: بأنهم لما كانوا مخلصين في الدين جاز إطلاق لفظ الأمة عليهم كما في قوله تعالى: {إنّ إبراهيم كان أمّة} (النحل،).
وقيل: إنّ بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطًا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرّق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله تعالى لهم نفقًا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفًا حتى خرجوا من وراء الصين وهم هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل ذهب به ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبريل عليه السلام: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا، قال: هذا محمد النبي الأميّ فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله إنّ موسى عليه السلام أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ مني عليه السلام فردّ محمد على موسى صلى الله عليهما وسلم السلام ثم أقرأهم عشر سور من القرآن أنزلت بمكة ولم تكن فريضة نزلت غير الصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت ولا يتظالموا ولا يتحاسدوا ولا يصل إليهم منا أحد ولا إلينا منهم أحد قال بعض المحققين: هذا القول ضعيف وإن كان البغوي صححه لوجوه: الأوّل: كونه أقرأهم عشر سور وقد نزل عليه أكثر من ذلك وكان فرض الزكاة بالمدينة فكيف يأمرهم بها قبل فرضها، الثاني: كون جبريل ذهب إليهم به ليلة الإسراء لم يرد بذلك نقل صحيح ولا رواه أحد من أئمة الحديث، الثالث: أنّ أحدًا منهم لا يصل إلينا ولا يصل إليهم منا أحد فمن الذي أوصل خبرهم إلينا فثبت بذلك بطلان هذا القول.
فإن قيل: إنّ يأجوج ومأجوج قد وصل خبرهم إلينا ولم يصل خبرنا إليهم أجيب: بالمنع فمن أين يعرف أنه لم يصل خبرنا إليهم ثم قال: فالمختار في تفسير هذه الآية أنها إما أن تكون قد نزلت في قوم كانوا متمسكين بدين موسى قبل التبديل والتغيير ثم ماتوا وهم على ذلك وإما أن تكون قد نزلت فيمن أسلم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه.
{وقطعناهم} أي: فرقنا بني إسرائيل وقوله تعالى: {اثنتي عشرة} حال وتأنيثه حملًا على الأمة {أسباطًا} بدل منه ولذلك جمع قبائل والأسباط أولاد الولد وكانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولدًا من ولد يعقوب عليه السلام {أممًا} بدل بعد بدل أو نعت لأسباطًا أي: وقطعناهم أممًا لأنّ كل سبط كان أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى لا تكاد تأتلف {وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه} أي: حين استسقوه في التيه {أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست} أي: انفجرت والمعنى واحد وهو الانفتاح بسعة وكثرة يقال: بجست الماء فانبجس أي: فجرته فانفجر قاله الجوهري، وعلى هذا التقرير فلا تباين بين الانبجاس المذكور هنا وبين الانفجار المذكور في سورة البقرة، وقال آخرون: الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة وطريق الجمع أن الماء ابتدأ بالخروج قليلًا ثم صار كثيرًا وهذا الفرق مروي عن عمرو بن العلاء.
فإن قيل: هلا قيل: فضربه فانبجست؟
أجيب: بأنه إنما حذف ذلك للإيماء على أن موسى لم يتوقف في الامتثال وإن ضربه لم يكن مؤثرًا يتوقف عليه الفعل في ذاته {منه} أي: من الحجر {اثنتا عشرة عينًا} أي: بعدد الأسباط {قد علم كل أناس} أي: كل سبط منهم {مشربهم} أي: لا يدخل سبط على سبط في مشربهم {وظللنا عليهم الغمام} أي: في التيه ليقيهم من حر الشمس {وأنزلنا عليهم المنّ} الترنجبيل {والسلوى} أي: الطير السماني بتخفيف الميم والقصر جعل الله تعالى ذلك طعامًا لهم في التيه، وقيل: المنّ الخبز والسلوى الإدام، وقال ابن يحيى: السلوى طائر يشبه السماني وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية يموت إذا سمع صوت الرعد كما أنّ الخطاف يقتله البرد فيلهمه الله تعالى أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون فيها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر والرعد فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض {كلوا} أي: وقلنا لهم كلوا {من طيبات ما رزقناكم} مما لم تعالجوه نوع معالجة وقوله تعالى: {وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} فيه حذف ترك ذكره للاستغناء عنه ودلالة الكلام عليه تقديره كلوا من طيبات ما رزقناكم فامتنعوا من ذلك وسئموه وقالوا: لن نصبر على طعام واحد وسألوه غير ذلك لأنّ المكلف إذا أمر بشيء فتركه وعدل عنه إلى غيره يكون عاصيًا بفعل ذلك فلهذا قال تعالى: {وما ظلمونا} أي: بفعل شيء مما قابلوا به الإحسان بالكفران ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بمخالفتهم ما أمروا به وقد سبق تفسير هذه الآية في سورة البقرة.
{وإذ قيل لهم} أي: واذكر يا محمد لقومك إذا قيل لبني إسرائيل {اسكنوا هذه القرية} أي: بيت المقدس {وكلوا منها} أي: من القرية {حيث شئتم وقولوا} أمرنا {حطة وادخلوا الباب} أي: باب القرية {سجدًّا} أي: سجودًا نحناء وقوله تعالى: {نفغر لكم} قرأه نافع وابن عامر بضم التاء وفتح الفاء على التأنيث والباقون بنون مفتوحة وكسر الفاء وقوله تعالى: {خطاياكم} قرأه نافع بكسر الطاء بعدها همزة مفتوحة ممدودة وبعد الهمزة تاء مضمومة على الجمع وابن عامر كذلك إلا أنه يقصر الهمزة على التوحيد وأبو عمرو بفتح الخاء والطاء وبعد الطاء ألف بعدها ياء وبعد الياء ألف على وزن قضاياكم والباقون بكسر الطاء بعدها همزة مفتوحة ممدودة بعدها تاء مكسورة {سنزيد المحسنين} أي: بالطاعة ثوابًا.
{فبدّل الذين ظلموا منهم قولًا غير الذي قيل لهم} فقالوا حبة في شعرة ودخلوا يزحفون على أستاههم أي: أدبارهم {فأرسلنا عليهم رجزًا} أي: عذابًا {من السماء بما كانوا يظلمون} أي: وهذه القصة أيضًا تقدّمت في سورة البقرة لكن ألفاظ هذه الآية تخالف الآية المذكورة في (البقرة،).
من وجوه: الأوّل: أنه قال هناك: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية} وهنا قال: {وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية} والثاني: أنه قال هناك: {فكلوا} بالفاء وقال هنا: {وكلوا} بالواو، والثالث: أنه قال هناك: {رغدًا} وأسقطه هنا، والرابع: أنه قال هناك: {وادخلوا الباب سجدًّا وقولوا حطة} وقال هنا: على التقديم والتأخير، والخامس: أنه قال هناك: {نغفر لكم خطاياكم} وقال هنا: {نغفر لكم خطيئاتكم} والسادس: أنه قال هناك: {وسنزيد المحسنين} وهنا: حذف الواو، والسابع: أنه قال هناك: {فأنزلنا على الذين ظلموا} وقال هنا: {فأرسلنا عليهم} الثامن: أنه قال هناك: {بما كانوا يفسقون} وقال هنا: {بما كانوا يظلمون} ولا منافاة بين هذه الألفاظ المختلفة أمّا الأول: وهو أنه قال هناك: {ادخلوا هذه القرية} وقال هنا: {اسكنوا} فلا منافاة بينهما لأنّ كل ساكن في موضع فلابد من الدخول فيه، وأمّا الثاني: وهو قوله هناك: {فكلوا} بالفاء، وقال هنا: {وكلوا} بالواو فالفرق بينهما أنّ للدخول حالة مقتضية للأكل عقب الدخول فحسن دخول الفاء التي هي للتعقيب ولما كانت السكنى حالة استمرار حسن دخول الواو عقب السكنى فيكون الأكل حاصلًا متى شاؤوا فظهر الفرق، وأمّا الثالث: وهو أنه ذكر هناك: {رغدًا} وأسقطه هنا فلأنّ الأكل عقب الدخول ألذ وأكمل والأكل مع السكنى والاستمرار ليس كذلك فحسن دخول لفظ رغدًا هناك: دون هنا، وأمّا الرابع: وهو قوله هناك: {ادخلوا الباب سجدًّا وقولوا حطة} وقال هنا على التقديم والتأخير فلا منافاة في ذلك لأنّ المقصود من ذلك تعظيم أمر الله تعالى وإظهار الخضوع والخشوع له فلم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير، وأمّا الخامس: وهو أنه قال هناك: {خطاياكم} وقال هنا: {خطيئاتكم} فهو إشارة إلى أنّ هذه الذنوب سواء كانت قليلة أم كثيرة فهي مغفورة عند الإتيان بهذا الدعاء والتضرّع، وأمّا السادس: وهو قوله تعالى هناك: {وسنزيد} بالواو وقال هنا بحذفها فالفائدة في حذف الواو أنه تعالى وعد بشيئين بالغفران وبالزيادة للمحسنين من الثواب وإسقاط الواو لا يخل بذلك المعنى لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل: ماذا حصل بعد الغفران؟ فقيل: إنه سيزيد المحسنين، وأما السابع: وهو الفرق بين أنزلنا وبين أرسلنا، فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بها فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل ثم جعله كثيرًا وهو نظير ما تقدّم من الفرق بين انبجست وانفجرت.